أنت تمشي في شوارع المدينة. تمر بوجوه كثيرة، كل وجه يحمل قصته. ربما تلمح عينين صغيرتين، ذابلتين قليلاً، في زحام المارة. أطفال. نعم، أطفال صغار، يجلسون على قطع من الورق المقوى البالي، أو يحاولون بيع مناديل ورقية متعبة. هؤلاء لا يملكون بيتًا يحميهم من قسوة الجو، لا حضن أم دافئ، ولا يد أب توجههم. تُركوا هنا، تحت شمس حارقة أو برد قارس يلسع الوجوه. هذا ليس مجرد مشهد عابر نراه ثم ننساه.
إنها قضية تمس قلوبنا جميعًا. (نعم، هي كذلك). إنها قصة أمل ضائع، وطفولة سُرقت قبل أن تبدأ حقيقةً. لكن كيف يصل طفل، أي طفل، إلى هذا المصير القاسي؟ كيف يجد نفسه وحيدًا في هذا العالم الكبير، على قارعة الطريق؟ الأسباب كثيرة، ومتشابكة، وتختلف من مكان لآخر، لكنها غالبًا ما تشير إلى فشل المنظومات التي يفترض بها أن تحمي الصغار.
جذور المشكلة: لماذا الشارع؟
الفقر، على رأس كل الأسباب، يبقى المحرك الأول. عائلات كثيرة لا تملك قوت يومها. (شيء مؤلم أن نفكر فيه). الأب ربما عاطل عن العمل لأمد طويل، والأم مريضة ولا تستطيع توفير الدخل. الأبواب تُغلق في وجوههم الواحد تلو الآخر، حتى يصبح الشارع، للأسف، الملاذ الوحيد أو الملجأ القسري لكسب لقمة العيش، حتى لو كانت فتاتًا. لا أحد يختار هذا المصير طواعية.
ثم يأتي التفكك الأسري. بيوت تحطمت، نزاعات لا تتوقف بين الوالدين، أو غياب أحدهما أو كليهما. الطفل يجد نفسه في المنتصف، بلا حماية أو توجيه. أحيانًا، يُطرد من البيت بعد خلافات حادة، وأحيانًا يهرب هو بنفسه من واقع لا يُطاق، واقع مليء بالعنف أو الإهمال. هذه البيئة العائلية المهزوزة تدفعه دفعًا إلى الخارج.
غياب الوعي المجتمعي أو الأسري يُعد عاملاً آخر. بعض الآباء والأمهات، للأسف، لا يدركون حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، أو ربما يفتقرون للقدرة على توفير احتياجات أساسية مثل التعليم أو الرعاية الصحية. وهذا ليس حكمًا عليهم بقدر ما هو وصف لحالة اجتماعية معقدة، تُفاقم من هشاشة وضع الطفل.
ولا ننسى الصراعات المسلحة والكوارث الطبيعية. هذه الأحداث ترمي أعدادًا هائلة من الأطفال إلى الشارع بلا حول ولا قوة. ترى مدنًا دُمرت، وعائلات تشتتت بلا رجعة. هؤلاء الأطفال يبحثون عن أي ملجأ، أي مكان للطعام، حتى لو كان ذلك يعني النوم تحت جسر أو في بناء مهجور.
حياة الشارع: عالم بلا أمان
حياة الشارع قاسية، وليست أبدًا جنة للأطفال. لا ألعاب هنا، ولا قصص تُروى قبل النوم. فقط صراع مستمر للبقاء على قيد الحياة. الخطر يتربص بهم في كل زاوية. إنهم فريسة سهلة للاستغلال، جسديًا ومعنويًا، وقد تجرهم عصابات منظمة إلى عالم الإجرام أو التسول القسري. (نعم، هذا يحدث بالفعل بشكل مؤسف). المخدرات تصبح رفيقًا سهلاً للنسيان، للهروب من قسوة الواقع للحظات.
صحتهم تتدهور بسرعة كبيرة. سوء التغذية، الأمراض المعدية التي لا تُعالج، ونقص النظافة كلها عوامل تفتك بأجسادهم الصغيرة. التعليم يصبح حلمًا بعيدًا، لا وجود له في قاموسهم اليومي. وهذا يعني أن فرصة الخروج من هذه الدائرة الجهنمية من الفقر والجهل تضعف كثيرًا، ويكاد يستحيل عليهم تحسين وضعهم مستقبلًا.
النفسية تتأثر بشدة. الخوف الدائم، القلق المستمر، وفقدان الثقة بالآخرين يصبح جزءًا لا يتجزأ من تكوينهم. كيف لقلب صغير أن يتحمل كل هذا الكم من الألم والوحدة؟ إنهم يعانون من صدمات نفسية عميقة، قد تلازمهم طوال حياتهم، وتجعل اندماجهم في المجتمع أمرًا صعبًا للغاية حتى لو تم إنقاذهم.
مسؤولية الجميع: يد العون
المجتمع كله يتحمل المسؤولية تجاه هؤلاء الأطفال. ليس فقط الحكومات هي المسؤولة عن هذا العبء. (هذا ليس عبئًا على جهة واحدة، بل واجب جماعي). المؤسسات الحكومية عليها دور كبير، يقع في صميم عملها. يجب أن توفر ملاجئ آمنة ومجهزة، وبرامج متكاملة لإعادة التأهيل، إلى جانب التعليم المجاني والرعاية الصحية المنتظمة. والأهم من ذلك، البحث عن جذور المشكلة، ومعالجة الفقر في منابعه، ودعم الأسر المتعثرة قبل أن تصل إلى مرحلة الانهيار.
منظمات المجتمع المدني، أو الجمعيات الخيرية، تعمل بلا كلل في هذا المجال. هم القلب النابض الذي يضخ الأمل. يقدمون المأوى، الطعام، والملبس، وأحيانًا التعليم البديل وفرص التأهيل المهني. يمدون يدًا دافئة لهؤلاء الأطفال، محاولين أن يعوضوا ولو جزءًا بسيطًا مما فقدوه.
وحتى الأفراد. نظرة بسيطة من التعاطف. كلمة طيبة تُقال. تقديم مساعدة صغيرة مباشرة أو عبر التبرع للمنظمات الموثوقة. الإبلاغ عن حالات الخطر للجهات المختصة. كل فعل، مهما كان صغيرًا في نظرنا، يترك أثرًا كبيرًا في حياة طفل. الدولة يجب أن تكون حاضرة بقوانين صارمة تحمي الأطفال من الإهمال وسوء المعاملة. قوانين تضمن حقهم الطبيعي في الحياة الكريمة والتعليم والصحة.
بناء جسور الأمل
ترك الأطفال في الشارع ليس قدرًا لا مفر منه. إنه نتيجة مباشرة لأسباب يمكننا، جميعًا، العمل على تغييرها. هؤلاء الصغار، الذين يملكون أحلامًا بسيطة كغيرهم من الأطفال، يستحقون فرصة أخرى. (بلا شك). فرصة للحياة بكرامة، للتعلم، للعب، للشعور بالأمان الذي حُرموا منه. هم جزء من نسيج مجتمعنا، ومستقبلنا يعتمد على رعايتهم.
دعونا لا نغض الطرف عن هذه المأساة الصامتة. دعونا نعمل معًا، كل من موقعه، سواء كنت مسؤولاً حكوميًا، ناشطًا مدنيًا، أو مجرد فرد عادي يمتلك حسًا إنسانيًا. لنعيد الأمل إلى قلوبهم الصغيرة. لنبني لهم جسرًا يعبرون به من ظلام الشارع إلى نور المستقبل المشرق. إنها ليست مجرد أرقام تُحصى، بل أرواح صغيرة بريئة تحتاج إلينا، الآن أكثر من أي وقت مضى.
