التملق. تلك الكلمة وحدها تثير شيئًا غريبًا في النفوس. هي ليست مجرد صفة بسيطة، لا. إنها سلوك معقد، ظل يطارد البشرية عبر العصور، قناع يتغير شكله لكن جوهره يبقى نفسه. إنه حاضر بيننا، في المكاتب، في المجالس، وحتى في البيوت. ترى أثره في تصرفات البعض، في الكلمات التي تخرج من أفواههم، وفي طريقة نظراتهم.
ما هو التملق حقاً؟
التملق، ببساطة، هو الإطراء الزائد، أو المديح الذي لا يحمل صدقًا. هو قول ما لا يصدقه القائل، فقط ليرضي السامع. وقد يكون الهدف منه مكسبًا، أو دفعًا لضرر، أو حتى مجرد رغبة في القبول. ليس المديح كله تملقًا، طبعًا. فالإشادة الصادقة بعمل جيد أو صفة حسنة هي شيء جميل. لكن التملق يختلف. هو يفتقر إلى الروح. (تلك الروح التي تميز الكلمة الحقيقية).
بعض الناس يراه فنًا. ربما، لكنه فنٌ زائف. هو لا ينمو على أرض الحقيقة. بل هو أشبه بزهرة بلا رائحة، جميلة من بعيد، لكنها لا تترك أثرًا طيبًا. إنه كلام معسول، لكنه غالبًا ما يخفي نوايا أخرى، نوايا قد تكون صغيرة أو كبيرة. إنه تزييف للواقع، تلوين له بما ليس فيه. وتلك هي المشكلة.
لماذا يلجأ إليه البعض؟
لماذا يتجه إنسان نحو هذا السلوك؟ الدوافع كثيرة، ومتنوعة.
أولاً، الرغبة في الكسب. قد يكون كسبًا ماديًا، منصبًا، أو حتى مجرد ترقية بسيطة. التملق هنا يصبح وسيلة، سلمًا يصعد به المتملق على أكتاف الآخرين. هو يعتقد أن هذا الطريق أقصر، وأكثر أمانًا.
ثانيًا، الخوف. الخوف من عقاب، من لوم، أو من فقدان شيء ما. البعض يرى فيه درعًا. يمدح الرئيس أو الزميل ليتجنب غضبه، أو ليحتمي من نقده. (يا له من درع هش!).
ثالثًا، انعدام الثقة بالنفس. قد يكون المتملق نفسه شخصًا ضعيفًا، لا يثق بقدراته. يجد في التملق وسيلة ليعوض ما ينقصه، ليظهر بمظهر المحبوب أو المقبول، حتى لو كان ذلك على حساب كرامته.
ورابعًا، الرغبة في السيطرة. المتملق الذكي، وقد يوجد منهم، يحاول أن يمسك بخيوط السلطة من وراء الستار. يهمس في الأذن، يزرع الأفكار، ويجعل من يمدحه يعتمد عليه عاطفيًا أو نفسيًا.
علامات التملق: كيف تميزه؟
تمييز التملق ليس بالضرورة صعبًا، إذا عرفت أين تنظر. هناك إشارات، همسات، وأحيانًا صرخات واضحة.
تجد المبالغة حاضرة دومًا. لا مجرد إطراء، بل إطراء مبالغ فيه، لا يتناسب مع الموقف أو الشخص. الكلام يعلو، يعلو حتى يصبح فارغًا من المعنى الحقيقي.
ثم تتبع الأهداف. المتملق غالبًا ما يمدح عندما يريد شيئًا. يظهر فجأة، يغدق عليك بالثناء، ثم يأتيك بطلب. الأمر يصبح واضحًا.
والتكرار المفرط. نفس الكلمات، نفس التعبيرات، تتكرر دون سبب حقيقي. كأنها أسطوانة مشروخة.
أيضًا، عدم وجود النقد البناء. المتملق لا ينتقد، ولا يرى عيوبًا. كل شيء مثالي، كل قرار صائب. هذه النقطة وحدها كافية لتدق ناقوس الخطر. (فلا يوجد إنسان بلا أخطاء، ولا عمل بلا نقص).
انتبه لتعبيرات الوجه والجسد. هل هي حقيقية؟ هل العينان تتكلمان بصدق؟ أحيانًا، الكلمات تقول شيئًا، والعيون تقول شيئًا آخر تمامًا.
التملق: آثاره الخفية على الأفراد والمجتمعات
آثار التملق ليست سطحية أبدًا. هي تتغلغل عميقًا، وتترك ندوبًا.
على مستوى الفرد الذي يتلقى التملق: يصبح أعمى عن عيوبه. يظن أنه الأفضل، وأنه لا يخطئ. وهذا يمنع التطور، ويوقف النمو. هو يحب أن يسمع الكلام المعسول، فيبتعد عن من يقول له الحقيقة. ونتيجة لذلك، يصاب بالغرور، ويصبح عرضه للسقوط. (كم من قادة سقطوا بسبب من حولهم من المتملقين!)
أما على مستوى المتملق نفسه: يفقد احترامه لذاته. يصبح شخصًا بلا مبدأ، يغير مواقفه لتناسب الظرف. يعيش في دوامة من الكذب، وهذا يهدم روحه. يفقد الثقة في الآخرين أيضًا، لأنه يعرف أن ما يقوله هو كذب، فيظن أن الآخرين كذلك.
وعلى مستوى المنظمات والمجتمعات: التملق سم بطيء. يقتل الإبداع، يثبط الهمم. القرارات السيئة تمر لأن لا أحد يجرؤ على قول الحقيقة. الكفاءات الحقيقية تتراجع، بينما يتقدم من يجيد فن التملق. هذا يخلق بيئة عمل سامة، بيئة قائمة على المظاهر لا الجوهر. ويضعف الروابط الاجتماعية، فالثقة بين الناس تتآكل.
كيف نواجه التملق؟
مواجهة التملق تتطلب وعيًا وبعض الشجاعة.
بالنسبة لمن يتلقى التملق: كن مستمعًا جيدًا، لكن مع فلتر في أذنك. ميز بين الإطراء الصادق والزائف. ابحث عن النقد البناء. شجع من حولك على قول الحقيقة، حتى لو كانت قاسية. (هذا مفيد لك حقًا). لا تلتفت كثيرًا للمبالغات. كافئ الصدق، حتى لو كان صادمًا.
أما بالنسبة لمن يرى التملق يحدث حوله: لا تكن جزءًا منه. لا تشجع عليه، ولا تصفق له. إذا كان الأمر يخصك، تحدث عن ذلك بصراحة. إذا رأيت شخصًا يتملق لآخر، لا تدع ذلك يمر مرور الكرام إن كان يؤثر على سير العمل أو على العدالة. أحيانًا، الصمت يشجع السلوك الخاطئ.
وعزز ثقافة الصراحة والشفافية. في أي مكان، في العمل أو البيت، اجعل من قول الحقيقة قيمة عليا.
خط رفيع: مدح حقيقي أم تملق؟
الحد الفاصل بين المديح الصادق والتملق دقيق. كيف نميزه؟
المديح الصادق يكون محددًا. يصف شيئًا معينًا: "أعجبني حقًا طريقة عرضك للمشروع، كانت واضحة جدًا."
التملق يكون عامًا ومبالغًا فيه: "أنت عبقري، كل ما تفعله رائع، لا يوجد مثلك."
المديح الصادق لا يهدف إلى مكسب. هو تعبير عن تقدير حقيقي.
التملق دائمًا ما يسبقه أو يتبعه طلب، أو رغبة في تأثير.
المديح الصادق يثني على الفعل، أو الصفة.
التملق يبالغ في تمجيد الشخص كله.
والمهم، الصدق يخرج من القلب. تشعر به. التملق يخرج من اللسان فقط. (ويترك طعمًا مرًا).
في الختام، التملق ظاهرة تستحق أن نتوقف عندها. فهمها يساعدنا على بناء علاقات أصيلة، ومجتمعات أقوى. هو ليس مجرد كلمة، بل هو سلوك يؤثر فينا جميعًا. لنسعَ نحو الصدق، وليكن كلامنا مرآة لما في قلوبنا. هذا هو الطريق الوحيد لنمو حقيقي.
