الصحة النفسية للعاملين: ركيزة النجاح الدائم
في زحمة الأيام، وبين جداول العمل المزدحمة وضغط تحقيق الأهداف (تلك الأرقام التي لا تتوقف عن النمو)، غالبًا ما ننسى شيئًا أساسيًا. شيء يشبه نبض القلب الخفي داخل آلة الإنتاج الكبيرة. أتكلم عن الصحة النفسية للعاملين. هي ليست مجرد رفاهية إضافية، بل هي الأساس المتين لأي عمل مزدهر. نعم، الأساس. إنها ليست إضافة لطيفة يمكن الاستغناء عنها، بل حاجة ماسة وضرورة ملحة.
العبء الصامت: ما لا يُقال بصوت عالٍ
الكثيرون يظنون أن العمل هو فقط ساعات نقضيها خلف الشاشات الوامضة، أو في الاجتماعات التي لا تنتهي. لكنه أكثر من ذلك بكثير. العمل، أحيانًا كثيرة، يكون مصدرًا للتوتر الشديد، للقلق المستمر. (وهذا أمر طبيعي تمامًا في عالمنا سريع الإيقاع والتغير المستمر). قد تبدأ الأعراض بسيطة وغير ملحوظة: قلة نوم متقطعة هنا، شعور بالتعب المستمر الذي لا يزول حتى بعد الراحة هناك. ثم تتصاعد ببطء. القلق يصبح رفيقًا يوميًا، والتركيز يتلاشى كالدخان في مهب الريح. حتى اللحظات التي كنا نستمتع بها خارج العمل، مثل قراءة كتاب أو لقاء الأصدقاء، تغدو باهتة بلا طعم أو لون.
إن الإرهاق الوظيفي، أو ما يسمى بـ "الاحتراق المهني"، ليس مجرد شعور بالتعب الشديد الذي يمكن أن يزول بيوم إجازة. إنه حالة عميقة من الإنهاك الجسدي والعقلي والعاطفي، يرافقها شعور عميق باللافعالية وعدم الرضا عن الذات وعن الإنجازات. مثل وعاء فارغ تمامًا، لا يمكنه أن يروي عطش أحد، أو يخدم غرضًا. هذا يحدث عندما تطغى المطالب الكثيرة على الموارد المتاحة للفرد، وحين تتجاهل البيئات متطلبات العقل والروح البشرية.
مظاهر الضغط النفسي في بيئة العمل
كيف نعرف أن هناك مشكلة حقيقية تتطور؟ الإشارات واضحة جدًا لمن يراقب بانتباه. انخفاض ملحوظ في جودة العمل المنجز، أخطاء متكررة غير معتادة، غياب متزايد عن العمل (أحيانًا بدون سبب واضح، فقط لأن الشخص لا يمتلك الطاقة أو الرغبة للنهوض من السرير). تذمر دائم حول كل شيء، توتر مستمر في العلاقات مع الزملاء، حتى العدائية الخفية والنفور من الآخرين. ترى وجوهًا متعبة، خطوط الإرهاق تظهر عليها بوضوح، نظرات شاردة لا تركز على شيء. (قلوبهم ليست في أماكنها الصحيحة).
تأثيرات متعددة: على الفرد وعلى الكيان ككل
عندما تتدهور الصحة النفسية للفرد، تتوالى النتائج السلبية مثل أحجار الدومينو. جسديًا، تظهر المشاكل الصحية العديدة. ارتفاع ضغط الدم المفاجئ، صداع لا يفارق حتى عند الاسترخاء، مشاكل في الجهاز الهضمي المزمنة. مناعة الجسم تضعف بشكل ملحوظ، والفرد يصبح عرضة للأمراض المختلفة أكثر من ذي قبل. حياته الشخصية تتأثر سلبًا وبشكل عميق؛ تتدهور علاقاته الأسرية والاجتماعية، تتلاشى هواياته القديمة، وحتى قدرته على الاستمتاع بوقته الحر أو العثور على أي متعة في الحياة اليومية. (هذا ما يسميه البعض "الخسارة الصامتة" التي لا يراها أحد).
وعلى صعيد المنظمة ككل، التأثيرات جلية وملموسة كذلك. موظف منهك نفسيًا هو موظف أقل إنتاجية بشكل واضح. يغيب أكثر عن العمل، يرتكب أخطاء أكثر، ولا يقدم أفكارًا جديدة أو مبادرات خلاقة. (الإبداع يحتاج لذهن صافٍ وروح مرتاحة، لا لذهن مشوش). ثم يزداد معدل دوران الموظفين بشكل مقلق، ويفقد الكيان كفاءاته. تكلفة توظيف وتدريب بدلاء مؤهلين عالية جدًا، لا يمكن للمؤسسات تجاهلها ببساطة. وهذا يؤثر على روح الفريق كله، ويخلق بيئة من عدم الاستقرار وانعدام الثقة. الكل يتأثر، حتى أولئك الذين يبدون أقوياء أو محصنين.
مسؤولية مشتركة: دور الفرد والمؤسسة
الصحة النفسية ليست مسؤولية فرد واحد أو طرف واحد. بل هي قصة معقدة يشارك في كتابة فصولها الجميع، ولها أبعاد فردية ومؤسسية.
ما يمكن للفرد فعله: خطوات صغيرة، نتائج كبيرة
كل منا يملك جزءًا مهمًا من الحل.
- وضع الحدود الشخصية: هذا أمر بالغ الأهمية. معرفة متى نقول "لا" لساعات العمل الإضافية المفرطة، أو لرسائل البريد الإلكتروني التي تصل بعد انتهاء الدوام الرسمي. الفصل الواضح بين العمل والحياة الشخصية يشبه بناء جدار بسيط لكنه قوي يحمي مساحتك الخاصة وهدوئك الداخلي.
 - طلب المساعدة دون تردد: هذا ليس علامة ضعف، بل قوة وشجاعة. البحث عن دعم من مختص نفسي مؤهل أو حتى التحدث بصدق مع صديق موثوق به أو أحد أفراد العائلة. (الحديث يزيل بعضًا من الثقل ويفتح آفاقًا جديدة). هناك الكثير من الموارد المتاحة، وعلينا أن نصل إليها.
 - الرعاية الذاتية المنتظمة: هذه ليست رفاهية يمكن تأجيلها، بل ضرورة قصوى للحفاظ على التوازن. النوم الكافي والمنتظم، التغذية السليمة والمتوازنة، وممارسة الرياضة بانتظام. حتى المشي لدقائق معدودة في الطبيعة أو الجلوس بهدوء مع كوب شاي يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا في حالتك المزاجية والنفسية.
 - تحديد الأولويات بوضوح: لا تستطيع فعل كل شيء دفعة واحدة، وهذا جيد. التركيز على المهام الأكثر أهمية وتقسيمها إلى أجزاء صغيرة يمكن التحكم بها يقلل من شعور الإرهاق والضغط.
 
بناء بيئة عمل واعية: دور المؤسسات لا غنى عنه
المؤسسات تحمل الجزء الأكبر والأهم من المسؤولية في خلق بيئة داعمة.
- ثقافة الدعم المفتوح: يجب أن تكون الصحة النفسية جزءًا لا يتجزأ من ثقافة الشركة الأساسية، وليست مجرد لافتة جميلة على الجدار أو شعار فارغ. على المديرين والقادة إظهار التعاطف والفهم الحقيقيين. أن يكونوا قدوة حسنة في رعاية صحتهم النفسية أيضًا.
 - برامج الدعم المتكاملة: توفير استشارات نفسية مجانية أو بأسعار رمزية للموظفين، برامج للمساعدة الذاتية عبر الإنترنت، ورش عمل دورية حول إدارة التوتر، وتقنيات اليقظة الذهنية. (هذه استثمارات حقيقية في رأس المال البشري، وليست نفقات زائدة). بعض الشركات المتقدمة توفر "أيام عافية" حيث يمكن للموظفين أخذ قسط من الراحة بعيداً عن ضغط العمل اليومي المتواصل.
 - بيئة عمل مرنة ومواتية: إتاحة خيارات العمل عن بعد أو ساعات العمل المرنة حيثما أمكن طبيعة العمل ذلك. هذا يمنح العاملين شعورًا بالتحكم في حياتهم وتوازنًا أفضل بين متطلبات العمل والحياة الشخصية، مما يقلل من الضغط.
 - التدريب المستمر للمديرين: لا يتوقع من المديرين أن يكونوا معالجين نفسيين محترفين. لكنهم يحتاجون للتدريب الجيد على كيفية اكتشاف علامات الضغط النفسي والإرهاق لدى فرق عملهم، وكيفية التعامل معها بإنسانية واحترام، وتوجيه الموظفين إلى الموارد المتاحة. (المعرفة قوة، والتعاطف مهارة يمكن تعلمها).
 
القيادة: الضوء الذي يرشد الطريق
القيادة في أي مؤسسة هي بمثابة البوصلة الحقيقية التي توجه السفينة. إذا كان القائد يتجاهل الصحة النفسية، أو يقلل من شأنها، فالجميع سيفعل ذلك، وسيزداد الأمر سوءًا. أما إذا كان القائد يتحدث عنها بصراحة وشفافية، ويدعمها بالفعل لا بالقول فقط، فهذا يخلق فرقًا هائلًا وإيجابيًا. يفتح الباب للجميع للحديث عن تحدياتهم النفسية دون خوف من الحكم أو اللوم. إن القائد الذي يشارك تجاربه (إن وجدت) أو ببساطة يظهر تفهمًا عميقًا لمحن الآخرين، هو قائد يبعث الأمان والطمأنينة في قلوب فريقه.
كسر حاجز الوصمة: الحديث هو البداية الحقيقية
الوصمة الاجتماعية المحيطة بالصحة النفسية هي العدو الأكبر الذي يجب علينا محاربته. الكثيرون يخشون الحديث عن مشاكلهم النفسية خوفًا من الحكم السلبي أو التأثير على مسارهم الوظيفي المستقبلي. (وهذا مؤسف للغاية ويؤدي إلى تفاقم المشكلات). علينا أن نعمل معًا لخلق بيئة حيث يمكن لأي شخص أن يقول بوضوح "أنا لا أشعر أنني بخير اليوم" دون تردد أو خوف من عواقب سلبية. الندوات التثقيفية، حملات التوعية الداخلية المستمرة، قصص النجاح التي تكسر الصور النمطية، كلها خطوات مهمة لبناء جسور التفاهم. الحديث المفتوح يزيل الظلال ويجلب النور إلى الزوايا المظلمة.
خاتمة: نحو غدٍ أفضل في العمل، وللعاملين
الصحة النفسية للعاملين ليست مجرد مفهوم جديد أو صيحة عابرة في عالم الأعمال. إنها جزء لا يتجزأ من مفهوم النجاح المستدام والنمو الحقيقي لأي منظمة. عندما يكون العاملون بصحة نفسية جيدة، فإنهم يقدمون أفضل ما لديهم من طاقة وإبداع. يزدهرون كأفراد، ويبدعون في مهامهم، ويساهمون بفاعلية أكبر في تحقيق أهداف المؤسسة. (هذه حقيقة لا جدال فيها، وتؤكدها الدراسات الحديثة). استثمار الشركات في عافية موظفيها هو استثمار ذكي ومربح في مستقبلها نفسه. فلنعمل معًا، أفرادًا ومؤسسات، لبناء بيئات عمل لا تهتم بالإنتاج والأرباح فحسب، بل تهتم أولاً وقبل كل شيء بالإنسان الذي يقف خلف هذا الإنتاج. بيئات صحية، قلوب مطمئنة، وعمل مزهر حقًا. (هذا هو ما نطمح إليه ونستحقه جميعًا).
