الكبر: الشرور تبدأ من هناك

هل الكبر حقًا أصل كل شر؟ مقال يكشف كيف يزرع الغرور بذور الصراع والجهل، وكيف يمكن للتواضع تغيير مسارنا نحو الخير.
صورة تعبر عن الكبر وتأثيره الهدام على العلاقات والمجتمعات.

الكبر: الشرور تبدأ من هناك

هل تساءلنا يومًا، من أين تأتي أشرس الخصومات؟ تلك النزاعات التي تهدم بيوتًا، وتمزق مجتمعات، وحتى تشعل حروبًا؟ ربما نظنها فروقات في الرأي، أو صراعًا على الموارد. لكن، لو أمعنا النظر، لو أزحنا طبقات الزيف، سنجد شيئًا آخر، شيئًا أعمق يختبئ هناك. نعم، إنه الكبر. تلك الصفة الخفية التي كثيرًا ما نغفلها، لكنها تعمل عمل السوس في الخشب، تأكل من الداخل، وتُحدث شروخًا لا تُرى إلا بعد فوات الأوان. والكبر، دعني أقل لك، هو أكثر من مجرد صفة. إنه طريقة حياة (وهذا ما يجعل الأمر خطيرًا حقًا).

الكبر: تعريف لا يُخطئ

الكبر ليس فقط أن ترى نفسك أفضل من الآخرين، لا. إنه أوسع من ذلك. الكبر هو أن تعتقد بأنك الوحيد الذي يمتلك الحقيقة المطلقة، أو أن رأيك هو الصواب الوحيد. هو رفض الاستماع، رفض التعلم، رفض الاعتراف بالخطأ. الكبر ذاك الصوت الداخلي الذي يهمس لك بأنك مكتمل، بأن لا حاجة لك لشيء من أحد. وقد يأتي بصور مختلفة: تفاخر صريح، أو ادعاء للمعرفة، أو حتى استخفاف بالآخرين. إنه يرتدي أقنعة عديدة. لكن جوهره واحد: الشعور بالاستعلاء. الشعور بالاستغناء عن الآخرين (أو هكذا نتخيل). وهذا شعور خادع، دائمًا.

الجذور العميقة: كيف ينمو الكبر؟

من أين يأتِ هذا الكبر؟ سؤال مهم. غالبًا ما ينمو الكبر من فراغ داخلي، أو خوف عميق من النقص. أحيانًا يكون رد فعل على شعور سابق بالضعف. الإنسان الذي يشعر بالهشاشة قد يبني جدارًا من الغرور ليحمي نفسه. وهو لا يعلم، طبعًا، أن هذا الجدار يسجنه هو. وأحيانًا أخرى، ينمو الكبر من الجهل. نعم، من الجهل بالذات والجهل بالآخرين. فالجاهل يظن أن ما يعرفه هو كل شيء، ولا يدرك أن الكون أوسع من إدراكه بكثير. وقد يغذيه المديح الزائد، النجاح السريع، أو حتى السلطة. كل هذا يمكن أن يكون وقودًا لذلك الشعور المتضخم بالأنا. (انتبه جيدًا لهذه النقطة).

تجليات الكبر: صور متعددة للداء الواحد

يمكنك أن ترى الكبر في كل مكان، إذا نظرت جيدًا. تراه في السياسي الذي يرفض الاستماع لشعبه، ظانًا أنه يعرف مصلحتهم أكثر منهم. وتراه في العالم الذي يرفض الأدلة الجديدة لأنها تتعارض مع نظرياته القديمة. وحتى في الأصدقاء، قد تراه في من يظن أنه الأذكى دائمًا، أو من لا يقبل النقد أبدًا. يظهر في الاستبداد، في الاحتكار، في التعنت بالرأي. الكبر يظهر في تلك العيون التي لا ترى إلا نفسها، وتلك الآذان التي لا تسمع إلا صدى صوتها. (نعم، هو موجود فينا كلنا، بدرجات متفاوتة). أليس هذا صادقًا؟

الكبر والشرور: علاقة لا تنفصم

وهنا بيت القصيد. كيف يصبح الكبر أصلًا للشرور؟ بسيط. الكبر يغلق الأبواب. يمنع الحوار المفتوح. الكبر يخلق الجدران بين الناس، وبين الأفكار. فعندما يظن كل طرف أنه الأصح، وأن الآخر على خطأ مطلق، فكيف يمكن أن يحدث تقارب؟ هنا تولد الصراعات. الصراعات على السلطة، على الحق، وحتى على الحقيقة. الكبر يؤدي إلى الظلم، فالذي يستعلي يرى أن حقوق الآخرين أقل أهمية. يؤدي إلى الفساد، لأن المتكبر يظن أنه فوق القانون. ويؤدي إلى الجهل، لأنه يمنع التعلم والتطور. الكبر هو منبع التعصب، الذي يرى الآخر المختلف عدوًا لا شريكًا. وهذا ما يجعل المجتمعات تتراجع، وتتفكك. الكبر يسحبنا إلى الوراء، دائمًا.

سبل المواجهة: ضوء في الظلمة

هل هناك مخرج من هذه الدائرة؟ نعم، هناك دائمًا. البداية تكون بمعرفة الذات. فهم نقاط ضعفنا، ونقاط قوتنا، وأننا لسنا بمعزل عن الخطأ. التواضع ليس ضعفًا، بل هو قوة عظيمة. قوة تسمح لك بالاستماع، بالتعلم، بالنمو. التواضع يفتح العقل والقلب. يجعلنا نرى البشر كبشر، ليسوا أدنى أو أعلى منا. إنه الاعتراف بأننا جميعًا تلاميذ في مدرسة الحياة، نخطئ ونتعلم. وممارسة الامتنان للأشياء الصغيرة، وتقدير الآخرين، يمكن أن يكون له أثر كبير. وحتى قبول المساعدة، أو طلبها، هو خطوة نحو التواضع (وهذا دليل على القوة الحقيقية). هذه خطوات صغيرة، ولكنها تُحدث فارقًا كبيرًا جدًا.

الخاتمة: دعوة للتأمل

الكبر، ذلك الداء الخفي، هو تحدٍّ إنساني قديم قدم البشرية. وهو ليس مجرد صفة فردية، بل له أثر يمتد ليشمل المجتمعات، بل وحتى الحضارات. عندما نتفهم الكبر، نعرف كيف يتسرب إلى عقولنا وقلوبنا، نستطيع أن نبدأ في مقاومته. وبدلًا من بناء جدران الغرور، يمكننا أن نبني جسورًا من التفاهم والتواضع. هذا ليس سهلًا، ولكنه يستحق العناء. ففي النهاية، السلام الحقيقي، داخلنا ومع الآخرين، يبدأ من لحظة نضع فيها الكبر جانبًا، ونفتح أيدينا لنتعلم وننمو معًا. وهكذا، تتوقف الشرور قبل أن تبدأ. هذا هو الأمل، وهذا هو الطريق.