التعصب الكروي: اللعبة الجميلة و جانبها المظلم

يستعرض المقال ظاهرة التعصب الكروي، أسبابها وتأثيراتها المدمرة على المجتمعات، ويقدم رؤى لتعزيز الروح الرياضية والسلام.

 

مشجعو كرة قدم متنافسون يظهرون توترًا أو صراعًا، يرمز للتعصب الكروي

كرة القدم، تلك الساحرة المستديرة، (نعم، هي ساحرة حقاً) تسكن قلوب الملايين عبر العالم. هي شغف، فن، رياضة جماعية تعلمنا روح الفريق والتنافس الشريف. لكن هذا العشق، الذي قد يرفعنا إلى السماء ببهجة الانتصار، أحياناً ينقلب إلى نار تأكل الأخضر واليابس. إنها قصة التعصب الكروي، وجه آخر للعبة قد ينسينا جمالها الأصيل، ويحول المتعة إلى ضغينة لا مبرر لها. و هذا ما يجعلنا نقف، نتساءل: متى تجاوز الحب حدوده؟

فهم التعصب الكروي: ليس مجرد حماس زائد

التعصب ليس مجرد تشجيع بحماس يتجاوز الحدود المعقولة، لا. إنه أعمق وأخطر بكثير. هو حالة من الانغلاق الذهني، إيمان راسخ بأن فريقك وحده على صواب، وأن الآخرين، كل الآخرين، مخطئون بطبيعة الحال. هو رفض تام لرؤية أي جمال في لعب الخصم، أو حتى الاعتراف بجهده المستحق. يذهب الأمر أبعد من ذلك، ليصبح رفضاً للآخر المختلف في التوجه الكروي، ويزداد قوة بتوحد المشجعين في هذا الرأي الأحادي. هذا الشعور يتحول بسرعة إلى سلوكيات سلبية، من أبسطها الكلمات الجارحة، إلى أشدها عنفاً. إنه يلون كل شيء باللونين الأبيض والأسود، بينما اللعبة، والحياة، مليئة بالألوان والظلال.

وجوه التعصب المتعددة: من الهتاف إلى الصراع

هذه النيران الصغيرة قد تشتعل أولاً في المدرجات. نسمع هتافات بذيئة، أحياناً، أو نرى إشارات لا تليق بالروح الرياضية. هي ليست مجرد لحظة غضب عابرة؛ إنها تراكم لثقافة تشجع على الإقصاء. لكن الأمر لا يتوقف هناك. ينتقل هذا الوباء الصغير إلى الشوارع المزدحمة، إلى المقاهي حيث يتجمع الأصدقاء، وحتى إلى بيوتنا الهادئة. قد ترى صديقين قديمين، أو حتى شقيقين، يتبادلان كلمات قاسية ومهينة بسبب نتيجة مباراة كرة قدم، (شيء محزن حقاً). وقد تتفاقم الأمور لتصل إلى اشتباكات عنيفة، حطام للممتلكات العامة والخاصة، وإصابات جسدية تترك ندوباً أعمق من مجرد الخسارة في لعبة. بل وأنا شخصياً، أتذكر كيف كانت بعض القرى تنقسم حرفياً حول ناديين محليين، فتفسد العلاقات لسنوات طويلة، وتختلط عداوة اللعب بعداوة الحياة اليومية. يا له من ثمن باهظ تدفعه المجتمعات مقابل بضع دقائق من الغضب غير المبرر!

لماذا يستمر التعصب؟ أسباب نفسية واجتماعية

هناك أسباب كثيرة لبقاء هذا التعصب، وانتشاره، وكأنه نبات شيطاني ينمو في تربة خصبة. جزء كبير منه نفسي عميق؛ الناس يبحثون عن هوية قوية، عن انتماء صلب، يشعرون به كجزء لا يتجزأ منهم. وعندما يفوز فريقهم المفضل، يشعرون وكأنهم فازوا هم أيضاً، وأنهم جزء من هذا النصر، (وهذا شعور طبيعي نوعاً ما، لكنه يحتاج للتحكم). الجانب الآخر، اجتماعي بشكل بحت. ضغط الأقران يلعب دوراً خطيراً. الخوف من أن تبدو أقل ولاءً، أو أن يتم إقصاؤك من المجموعة إذا لم تشارك في الهتافات العدائية. وسائل الإعلام، أحياناً وبدون قصد، أو بقصد لجذب المشاهدين، تزيد الأمر سوءاً. بتركيزها المفرط على التنافس الحاد، و"حرب التصريحات"، وتأجيج مشاعر الخصومة التاريخية، بدلاً من الاحتفاء بجمال الأداء، والروح الرياضية الحقيقية، والتسامح بين الجماهير. إنهم يقدمون وجبة دسمة من التوتر، ويظنون أنهم يخدمون اللعبة.

الثمن الحقيقي: خسائر مجتمعية لا تُعد

الخسارة هنا ليست فقط في النقاط التي فقدها فريق، أو الكؤوس التي لم يرفعها. الخسارة أعمق بكثير، المجتمع كله يتأثر، ويتآكل من الداخل. تفقد الملاعب سحرها كأماكن للتجمع السعيد والاحتفال الجماعي، (والتي من المفترض أن تكون كذلك). وتظهر الانقسامات الكبيرة بين أفراد المجتمع الواحد. بدلاً من أن تكون الرياضة جسراً يوصل القلوب ببعضها، ويعلم الصبر والمثابرة، تصبح جداراً سميكاً يفصلها، ويولد العداوة بلا معنى. الأطفال، الذين هم مرآة المستقبل، يرون هذا السلوك السلبي، يتعلمون أن الكراهية والعداء جزء طبيعي من اللعبة، وهذا درس خطير للغاية يزرع بذور الشقاق في نفوسهم الصغيرة. إنه يقوض فكرة التسامح والقبول بالآخر المختلف، قيم أساسية لبناء مجتمع سليم، مترابط، قادر على مواجهة تحدياته. إننا نخسر أكثر مما نتصور؛ نخسر جزءاً من إنسانيتنا المشتركة.

الطريق إلى الأمام: مسؤولية الجميع

هل يمكننا تغيير هذا الواقع المؤلم؟ نعم، يمكننا ذلك، وبقوة. يبدأ التغيير الحقيقي من كل واحد منا، من كل مشجع، من كل فرد في هذا المجتمع الكبير. فكر قبل أن تهتف. افصل تماماً بين التشجيع لحب فريقك وبين الحقد على الخصم. علينا أن نتذكر جيداً أن كرة القدم، في جوهرها النقي، هي لعبة جميلة للمتعة والتنافس الشريف، وليست ساحة معركة. التعليم، ووعي الأجيال الجديدة، يلعب دوراً كبيراً ومحورياً، (حتى لو بدا بديهياً للبعض). المدارس، الأندية الرياضية، وحتى العائلات في بيوتها، عليها جميعاً أن تغرس قيم احترام الخصم، واللعب النظيف، والقبول بالهزيمة بروح رياضية. يجب على الإعلام، أيضاً، أن يعيد تقييم دوره ومسؤولياته. أن يركز على الجوانب الإيجابية الملهمة، على قصص النجاح التي تبني الأمل، لا على الصراعات والتوترات المفتعلة. وأن يبرز جمال اللعبة بحد ذاتها، وفنياتها، وإبداع اللاعبين، لا فقط نتيجة المباراة أو الخلافات الثانوية.

نحو مستقبل أفضل لكرة القدم

لنعد كرة القدم إلى مكانها الصحيح، مكانها الطبيعي في قلوبنا. هي ليست حرباً يجب الانتصار فيها بأي ثمن. هي رياضة تجمع الناس تحت راية الشغف المشترك، لا تفرقهم تحت راية الكراهية العمياء. دعونا نشجع بحب خالص لفريقنا، لا بكراهية نزرعها للآخرين. وباحترام متبادل، لا بتعصب أعمى يدمر كل شيء. (هذا هو كل ما نريده حقاً، أليس كذلك؟). عندها، فقط عندها، يمكننا أن نستمتع باللعبة بكامل روعتها الحقيقية، ونبني معاً مجتمعات أكثر تسامحاً وتفهماً، مجتمعات تستلهم من الرياضة أجمل قيمها، لا أسوأها. لنجعل الملاعب ساحات للفرح والوئام، لا للحقد والنزاع.