كلنا نتنفس. هذه حقيقة بديهية. (حركة قديمة قدم الحياة نفسها). لكن كم مرة نفعل هذا بوعي؟ نحن نمر بالأيام، والتوتر يتراكم على الأكتاف، ويبقى تنفسنا سطحياً، قصيراً، وكأنه هروب دائم من اللحظة. التنفس ليس مجرد عملية لتبادل الغازات في الرئتين. إنه مفتاح التشغيل والإيقاف للجهاز العصبي الخاص بنا. وربما تكون هذه الحركة، البسيطة جداً، هي الآلية التي نحتاج إليها لتهدئة ضجيج عالمنا المتسارع.
دعنا نرى ما تخبئه لنا الرئتان وكيف يمكن لإيقاع بسيط أن يعيد ترتيب الفوضى العارمة داخل الرأس.
العلم وراء الشهيق والزفير: ليس الأمر مجرد هواء
الدماغ يحتاج الأكسجين، وهذا ليس مجرد شعار صحي، بل هو متطلب أساسي للعمليات الفكرية والحيوية. جرب أن تحبس نفسك دقيقة واحدة، وسرعان ما ستجد القلق يضرب سريعاً، وربما الدوخة تتبع ذلك. الأبحاث الحديثة، الثابتة جداً، تظهر علاقة مباشرة بين جودة تبادل الغازات في الجسم وبين استجابتنا للإجهاد. هذا هو أساس القصة كلها.
عندما نتنفس بسرعة وقصر (وهو ما يسمى التنفس الصدري)، فإننا بذلك نرسل إشارة واضحة للجهاز العصبي الودي (نظام الكر والفر) بأن هناك خطراً وشيكاً. هذا يحدث حتى لو كان الخطر الوحيد هو قائمة المهام الطويلة التي تنتظرك صباح الغد. الجسم يرفع معدل ضربات القلب ويجهز العضلات للقتال أو الهرب. ولكن عندما نُطيل عملية الزفير، الأمر يختلف بشكل كبير.
نحن هنا نُنشط النظام العصبي اللاودي. هذا هو الجزء الذي يهمس في أذن الجسم: 'استرخِ، الأمور تحت السيطرة'. إطالة الزفير تزيد من كفاءة خروج ثاني أكسيد الكربون، وتحفز العصب المبهم (Vagus Nerve)، وهو المنظم الرئيسي لعمليات الهدوء في الجسم. وهذه الحيلة البسيطة تعمل بشكل أكثر فعالية من أي تقنية معقدة لتهدئة فورية.
التنفس البطني: أسلوب الأطفال وراحة البال
التنفس البطني، أو كما يطلق عليه البعض تنفس الحجاب الحاجز، هو الأسلوب الذي يمارسه الأطفال الرضع بشكل طبيعي قبل أن نتعلم منهم كيف نتوتر وكيف نتنفس بالصدر فقط. هذا الأسلوب هو الأساس الذي يجب أن تبني عليه أي ممارسة تنفسية.
كيفية ممارسة التنفس البطني؟
- الوضعية: استلقِ على ظهرك أو اجلس بظهر مستقيم. ضع إحدى يديك على صدرك والأخرى على بطنك (فوق السرة بقليل). (يمكنك وضع كتاب صغير فوق يدك السفلية لترى الحركة بوضوح، إنها تفصيلة مهمة).
 - الشهيق: خذ شهيقاً عميقاً وهادئاً من الأنف. يجب أن تشعر بأن بطنك يرتفع أولاً، ويدفع الكتاب إلى الأعلى. (الصدر يجب أن يتحرك قليلاً جداً أو لا يتحرك على الإطلاق).
 - الزفير: أخرج الهواء ببطء وثبات من فمك، وكأنك تنفخ شمعة. ركز على أن يكون الزفير أطول من الشهيق. ابدأ بأربع ثوانٍ للشهيق، ثم ست ثوانٍ للزفير. أو سبع ثوانٍ، إن استطعت.
 
هذه الزيادة في طول الزفير هي التي تخفض معدل ضربات القلب بشكل حقيقي. ولهذا هي قاعدة أساسية لا يمكن كسرها في عالم تمارين الاسترخاء.
عندما يتسارع الخوف: تقنية 4-7-8 للتهدئة السريعة
في اللحظات التي تتفاقم فيها نوبات القلق، أو قبل الدخول في موقف يسبب التوتر الشديد، نحتاج إلى أداة سريعة وفعالة. إيقاع 4-7-8 ليس مجرد لعبة أرقام. إنه اختراع الدكتور أندرو ويل، وهو بسيط جداً لدرجة أن البعض قد يشكك في قوته. (لكن الشك يصبح رفاهية عندما يضرب الذعر).
الخطوات:
- الزفير الكامل: أخرج كل الهواء الموجود في رئتيك عبر الفم، وأصدر صوتاً مسموعاً أثناء ذلك. هذا ضروري لتفريغ الرئة تماماً.
 - الشهيق (4 ثوان): أغلق فمك وخذ شهيقاً هادئاً من الأنف وعد في سرك حتى الرقم أربعة.
 - حبس الهواء (7 ثوان): احبس النفس لسبع ثوانٍ كاملة. وهذا وقت طويل، تذكر أن هذا هو الجزء الحيوي لإتاحة الفرصة للأكسجين للوصول للدماغ.
 - الزفير (8 ثوان): أخرج كل الهواء المتبقي ببطء عبر الفم، مصدراً صوتاً مسموعاً خفيفاً، وعد في سرك حتى الرقم ثمانية.
 
كرر الدورة ثلاث أو أربع مرات فقط. وستشعر بتغيير فوري في مستوى التوتر. هذا الزفير الطويل يطرد كمية هائلة من ثاني أكسيد الكربون. وكأنه يمسح الغبار عن العقل. والجميل في الأمر أن هذه التقنية لا تتطلب منك أي استعدادات خاصة.
إيقاع التنفس الهادئ للمحارب المجهد
الحياة الحديثة سريعة جداً. والجهاز العصبي لدينا، الذي تطور منذ آلاف السنين، لم يستوعب بعد سرعة إشعارات الهاتف أو رسائل البريد الإلكتروني المتدفقة. ولهذا السبب تحديداً، نحتاج لإيقاع ثابت نعود إليه. ليس بالضرورة أن تجلس في غرفة مظلمة لساعات طويلة.
التنفس، التنفس هو نقطة الارتكاز التي يمكن أن تلجأ إليها في أي وقت. دقيقة واحدة أثناء انتظار القهوة. أو ثلاث دقائق قبل فتح الباب والعودة إلى ضغوط المنزل. هذه ليست مضيعة للوقت أبداً. إنها إعادة شحن للذات. إنها وقفة قصيرة جداً، لكنها تحمينا من الوصول إلى نقطة الانهيار.
اعلم أن التنفس الفعال يحسن من وظائف الرئة ويقلل من الالتهابات المزمنة على المدى الطويل، وهذا مثبت. إنه صيانة بدنية لا يمكن إهمالها، وليست مجرد خدعة عقلية.
العودة إلى الأنفاس بسيطة جداً. إنها مجانية. ونحن نفعلها بالفعل. الأمر كله يكمن في الاهتمام. وفي التزام بسيط: أن تجعل الهواء الداخل يخدمك، وتجعل الهواء الخارج يأخذ معه ثقل اليوم. ابدأ اليوم. ليس غداً.
